البرونز بين الكتلة والفراغ، وإعادة تشكيل الحياة

بقلم: آلما سالم

حول المعرض الاخير للفنان ممتاز شعيب في غاليري “البيت الأزرق” في سوق ساروجة، دمشق – شباط 2025

https://www.facebook.com/share/r/16E5SuLnkf/?mibextid=wwXIfr

في معرضه الأخير في “البيت الأزرق”، يقدم الفنان ممتاز شعيب تجربة نحت استثنائية، تتشابك فيها الكتلة والفراغ، الحضور والغياب، والدمار والتجدّد وتبدو منحوتاته وكأنها سجل بصري لحكايات لم تُروَ بعد. ثلاثون عملاً ضمّها المعرض الذي نظمّه البيت الأزرق في شهر شباط من عام ٢٠٢٥ . المنحوتات ليست مجرد تشكيلات برونزية صامتة، بل هي سرديات بصرية تحمل في تفاصيلها روحية الأرض والإنسان. إنها شهادة فنية نابضة حول قدرة الجمال على النهوض من تحت أنقاض المأساة.

يضعنا شعيب أمام تساؤلات وجودية لا يمكن الفكاك منها: ماذا يبقى بعد الخراب؟ وما الذي يصنعه الفقد في روح الإنسان؟ كيف يمكن للنحت، بوصفه فنّ الكتلة الملموسة الثقيلة، أن يُعبر عن فلسفة الفنّان البصرية حول الغياب، وحول الفراغ، وعن الذاكرة ويعيد تشكيل المساحات لتكون مأهولة بالحياة؟

بستان الذاكرة: الحياة في حضن الغوطة المدمرّة

 

تنتمي منحوتات شعيب إلى ذاكرة مكانية خاصة، محفوظة في بستانه القائم بين منطقتي جرمانا والمليحة، في ذلك الامتداد الترابي الذي كان يوماً جزءاً من غوطة دمشق، وفردوسها الذي تحول في السنوات الماضية إلى أرضٍ مثقلة بالدمار والفقد.

عند دخولك إلى البستان، تستقبلك أشجار الزيتون العتيقة التي تُشكّل ممرًا طبيعياً يُشبه بوابة نحو زمن آخر. الزيتون، بشكله المعمّر وسكونه الحكيم يوحي بالتوق إلى الخلود، وتصطف الأشجار كحارسات صامتات تقفْنَ على مداخل الحكايات.
من بين الأغصان المتشابكة، يطلّ طائر بلبل بصوته الخافت، يُغني لنور الشمس المتسرّب بين أفرع شجرة ليمون مرحة تستقبل الزوار، وكأنما يُذكّر بأن الغناء ينجو رغم صمت الدمار، ويبشّر أن الحياة عرفت كيف تتخفّى وتنجو بين أوراق أشجار الغوطة حتى في أشدّ اللحظات قتامة.

 ابتسمتُ لطائر البلبل وفكرّت لبُرهة؛ ربّما أنقَذَهُ قفصه من مصير انتهاء حياته برصاص قنّاص هنا أو هناك.

 

في زمنٍ أصبح فيه الحصول على الوقود الأحفوري في سوريا حلماً، تتوسطّ البستان مدفأة حطب تذكرنا أن الطبيعة لا تبخل على الإنسان بالموارد، يعلوها إبريق من النحاس يُعرف محليًا باسم “أفريقية”، يُستخدم للضيافة. تنبعث من الحطب المكدّس قرب المدفأة رائحة الأشجار المختلفة وبقايا مواد الورشة التي يعاد تكرارها بهدف الدفء، ويجتمع الفنّانون حولها في أوقات الاستراحة، يتبادلون الحديث بين دخان الحطب وصوت نقرات الإزميل من المشغل وهنا في هذه الفسحة استقبلني الفنان ممتاز شعيب.

 

جلسَ وخلفه شجرة ليمون، بأوراقها اللامعة وثمارها المتدلية، تبدو كأنها تقول إن هذا البستان، الذي نجا من إبادة غوطة دمشق، هو شهادة حيّة على انتصار الأرض والفنّ على الفناء. وأدركتُ منذ اللحظة الأولى أن محترف النحّات ممتاز شعيب هو مساحة لمقاومة اليأس.

 

مشغل البرونز: انبعاث المعدن

يتصدّر البستان دار تحوّلت الى مشغل البرونز تسكنها بقايا رائحة المعدن الساخن الممزوجةً برائحة الخشب المحترق والطين الرطب. يبدو جرن الفرن كفوّهة بركان تتنفس حرارةً قادرة على إذابة البرونز وتحويله من معدن صلب إلى سائلٍ مرن ينتظر أن يُعاد تشكيله.

تتبعثر في غرف الورشة الآلات والشفرات والأدوات الثقيلة منها والخفيفة، الكهربائية منها واليدوية دون وضوح في اختصاصات تلك الغرف، وكأنما خيار العمل في إحدى الغرف او سواها مرتبط بالضوء وربما التدفئة وربمّا بمزاج الفنّان.

 

لم تبدو لي موجودات الورشة مجرد أدوات تقنية؛ بل أوحت لي بأنها كائنات حيّة أسطورية في يدّ النحّات.

وبالنظر إليها يبدو وكأن شكلها المتعرج و المتآكل يُشبه مشهد البيوت المدمّرة في غوطة دمشق. في حين أنّ تلك البيوت بقيت شاهدةً على الخراب والموت والفقد، أما الآلات في مشغل البرونز، فتعيد تشكيل الخراب إلى حياة جديدة تنبعث في البرونز الذي يُصبّ في القوالب ثم يخرج منها كأنّما يولد من الذاكرة الثقيلة.

“الفن ليس معزولًا عن الحياة”، يقول شعيب “إنه طريقة لفهم الألم، والتعامل معه، وتحويله إلى المحسوس”.

نحت البرونز بطريقة الشمع المهدور 

يُعَدّ الفنان النحات ممتاز شعيب من المبدعين الذين اعتمدوا تقنية الشمع المهدور في نحت البرونز وهي تقنية عريقة استخدمتها الحضارات القديمة في تشكيل التماثيل المعدنية لما تمنحه من رقةٍ وانسيابية وتكويناتٍ معقدة يصعب تحقيقها باستخدام مواد أخرى كالصَّلصال أو المعجون. ويؤكد شعيب أن الشمع، بمرونته وسهولة تطويعه، يتيح للفنان حريّة واسعة في تجسيد أفكاره الإبداعية بشكلٍ دقيقٍ وجميل. ويُشير إلى أن اختيار المادة المناسبة للنحت هو قرار جوهري، إذ ينبغي أن تكون قادرةً على الجمع بين الجمالية والديمومة.

يوضح ممتاز شعيب أن الكثير من النحاتين يعتمدون على هيكل معدني يُعرف بـ”الكاراكاس”، وهو الإطار الذي يدعم الطين المستخدم في تشكيل المنحوتة. غير أن هناك بعض الكتل النحتية التي لا تحتاج إلى هذا الهيكل. تبدأ العملية لديه بتشكيل العمل الفني باستخدام الطين، ثم يصنع منه قالباً سيليكونياً مدعوماً بحواضن خاصة للحفاظ على تفاصيل المنحوتة بدقة. وبمجرد الانتهاء من القالب، يُزال عن الطين، ليفقد بذلك قيمته الوظيفية ويصبح جاهزاً للمرحلة التالية.

صبّ الشمع: تجسيد الشكل الأولي

في المرحلة التالية، يذيب ممتاز شعيب شمعاً خاصاً بدرجة حرارة محددة، ثم يصّبه في القالب السيليكوني، مكوِّناً طبقة رقيقة تجسّد المنحوتة الأصلية. ويؤكّد أن سماكة الشمع هنا عنصرٌ حاسم؛ فكلما كان الشمع أرقّ، كان العمل النهائي أخف وزناً وأكثر دقةً. وبعد تصلّب الشمع، يُزال القالب، لنحصل على نسخة شمعية مجوفّة من الداخل، تعكس أدّق تفاصيل العمل الأصلي.

تكوين الشجرة: هندسة انسيابية الصّب

ينتقل شعيب بعد ذلك إلى مرحلة “تكوين الشجرة”، وهي شبكة من المصّبات والتنافيس التي تؤدي دورًا أساسيًا في عملية الصّب. ويشرح بأن المصبّات تشكل قنوات ينهمر من خلالها البرونز المنصهر، بينما تعمل التنافيس على إخراج الهواء، مما يضمن تدفق المعدن داخل القالب بشكل متساوٍ ومن دون عوائق أو فراغات.

 

القشرة الخزفية: حماية الشكل وتثبيته

بعد الانتهاء من إعداد الشمع، يُغلّفه النحّات بطبقة من المواد الخزفية بسماكة تتراوح بين نصف سنتيمتر وسنتيمتر واحد. ويوّضح أن هذه القشرة تُصنع بتقنية خاصة تمزج بين الجبصين والقرميد المطحون، مما يمنحها قدرة على تحمّل درجات الحرارة العالية أثناء عملية الصهر. ثم يُشوى هذا الغلاف في فرنٍ خاص حتى يتصلّب تماماً، ويُصبح القالب (الصَدَفة) جاهزًا لاستقبال المعدن المنصهر.

إهدار الشمع وصبّ البرونز

عند تسخين القالب، يذوب الشمع ويُهدر، تاركاً خلفه فراغاً مطابقاً لشكل المنحوتة. ويؤكّد شعيب أن هذه المرحلة الدقيقة مستوحاة من تقنيات رومانية قديمة تستند إلى مواد قابلة للاحتراق لإفراغ القالب. بعد ذلك، يُسكب البرونز المنصهر في القالب عبر المصّبات، بينما يُطرد الهواء عبر التنافيس. وبمجرد أن يبرد البرونز ويتصلب، تُزال “الشجرة” والأجزاء الزائدة، لتبدأ عملية الكشف عن الشكل النهائي.

 

الروتوش: إعادة الحياة إلى الملمس

يعتبر ممتاز شعيب أن مرحلة “الروتوش، أو الروتشة باللغة المحكيّة” هي روح العمل النحتي، إذ تتيح إعادة الملمس والإحساس بالعمل الفني. ففي هذه المرحلة، يُعاد ترميم المناطق التي فقدت تفاصيلها أثناء المراحل السابقة، وتُملأ الفراغات والثقوب الدقيقة للوصول إلى ملمس متجانس يمنح المشاهد تجربة حسّية تفاعلية، ويوضح أن استعادة الملمس ليست مجرد جانب تقني، بل هي وسيلةٌ لإحياء روح العمل الفني وإبراز تواصله الحسّي مع الجمهور.

التقنية كتجريب ابداعي مستمر

على الصعيد الشخصي، يؤكد ممتاز شعيب أنه طوّر نهجاً خاصاً يُعنى بتجاوز مرحلة القالب الطيني، حيث يبدأ بتشكيل المنحوتة مباشرةً من الشمع دون الحاجة إلى قالب مُسبَق. ويُشير إلى أن هذا الأسلوب تطلّب منه وقتاً وجهداً كبيراً لإتقانه، وهي تقنية تعتمد على التجريب والتطوير والمفاجأة التشكيلية لتحقيق أعمال فنية تحمل بصمة الملمس الحي، وتُجسّد خيالات الفنّ بأبهى صورها.

وأما عن الهوية اللّونية لأعماله فهي مليئة بدهشة التجريب حيث تظهر ألوان المنحوتات عبر عمليات الأكسدة والصدفة، ومن خلال التفاعل الكيميائي بين البرونز والمواد الأخرى. فلا يخطط النحّات مسبقاً لألوان الأعمال الفنيّة بل تظهر درجات الألوان عبر التفاعل العفوي بين المادة والحرارة والزمن.

ويَختُم النحّات ممتاز وصفه للعملية الإبداعية قائلاً: “إن تقنية الشمع المهدور ليست مجرد حرفة تقليدية، بل هي حوار مستمر بيني وبين المادة، بين الفكرة والواقع، وبين الملمس والذاكرة الحسية”، فالبرونز يمنح العمل وهج الحضور بينما يمنحه الملمس الحي دفء الحياة.

المشغل كمساحة ثقافية

المشغل ليس مجرد مكان للصناعة الفنية، إنه ورشة مفتوحة لاستقبال طلاب الفنون والباحثين والحرفيين وينظَّم فيه الفنّان جلسات نقاش حول النحت المعاصر، ودروس وتجارب الفنانين المحليين والعالميين.

وفي نموذج مثالي للتكامل الاقتصادي وتطوير الصناعة الإبداعية لا يقتصر المكان على كونه محترفاً لفنّه بل يفتح الفنّان أبواب الورشة للفنانين والحرفيين للتعلم والاستفادة من الخدمات المتنوعّة لتقديم خدمات صبّ البرونز لمن يحتاجها.

يقول شعيب: “الفن ليس فرديًا بالكامل، هناك دائمًا حوار مع الآخرين، سواء كانوا فنانين أو مشاهدين. المشغل هو مكان للتعلّم المتبادل”.

 

المشغل كمحترف للأطفال:

سرّ البداية

يستذكر الفنّان طفولته قائلاً: بدأت رحلتي الفنيّة منذ ما قبل الذاكرة. لقد كان الطين الذي كنا نلعب به يثير فضولي، فكنت أحاول تجسيد أي شيء يقع عليه نظري، حتى الحشرات على صغرها.

وبنفس الشفافية يكمل، قيل لي إن “الفن لا يُطعم خبزاً”، لكنني لم أتوقف. كنت أُهدر الكثير من الأعمال التي لم ترضني، والأعمال التي ترونها اليوم هي ما أُنقِذ من بين مئات التجارب. إنّ عملية النحت، خاصة بصبّ البرونز بطريقة “الشمع المهدور”، تتطلب وقتاً وظروفاً مناسبة؛ فأحياناً أبدأ العمل في عام وأكمله بعد سنوات ولذلك لا يمكن تحديد الزمن الذي خلق فيه العمل.

 

بعودته الى الطفولة يحرّر ممتاز شعيب العملية الإبداعية من الأطر الزمنية ويعيد للخيال دوره ومكانته في عملية خلق العمل الفنّي فلا يمكن تحديد لحظة البدء 

ما يجعل مشغل البرونز فريدًا ليس مجرد ما يُنتج من أعمال، بل كونه مساحة تعليمية للأطفال. وفي فترات محددة من الأسبوع، يُفتح الباب المعدني العريض للبستان ليستقبل أطفال الحيّ. يأتون بخطواتهم الصغيرة، وفضولهم الذي لا ينتهي.

هؤلاء الأطفال، الذين وُلدوا في زمن الخراب، يجدون في هذا المشغل مساحة لاكتشاف معنى الخلق. يُريهم شعيب كيف يمكن للشمع الذائب أن يتحول إلى وجه، وكيف يمكن لقطعة طين عادية أن تتحول إلى شخصية تجريدية من معدن البرونز توحي إليهم بقصص من الخيال.
“الفن ليس رفاهية”، يقول شعيب. “الفن هو الطريقة التي نقول بها: نحن هنا”. و يتاح لروّاد المشغل بدورهم على اختلاف اعمارهم أن يتعلّموا كيف يمسكون المِبْرَد، وكيف يُشكّلون البرونز بأيديهم، وكيف يعيشون لحظات الدهشة والإنتظار التي تبدأ بانسياب البرونز الساخن في القالب.
تجعل فرصة العلاقة المباشرة مع المادة المشغل أكثر من مجرد مكان عمل؛ إنه مدرسة للحياة تعلمّنا أن الجمال يمكنه أن يلد من الرماد.

 

المعارضة كفعل وجودي: النحت في مواجهة الصمت

كي نلمس الحريّة علينا أولاً كسر قيود الرمزية التقليدية وهذا ما يميّز أعمال النحّات ممتاز شعيب.

حيث تُشكل فكرة المعارضة إحدى الركائز الأساسية التي تنطلق منها رؤية شعيب الفنيّة. المعارضة هنا ليست شعاراً سياسياً، بل موقفاً وجودياً. المعارضة، في منحوتاته، هي وقوف الشخوص البرونزية في مواجهة التيار الجارف للخذلان. إنّها فعل مقاومة يرفض الانسياق وراء منطق الدمار، ويَصّر على إبراز الإنسان ككائن مُقاوم، لا يستسلم.

يتأمّل ممتاز قائلاً: “إنّ معارضة الواقع القائم ليست مجرد رفض، بل هي فعل نضالي يواجه التعب والهموم والمعاناة يختبر فيها الإنسان قدرته على التشبث بالحياة ومقاومته للإنهيار النفسي والجسدي، تماماً كما يُهدم البناء. وأولئك الذين عانوا من عادات وتقاليد بالية، أو تسّلط أرباب العمل، أو قمع السلطات الحاكمة، يفهمون معنى النضال.
في بعض الأحيان، يصبح الإنسان عدو نفسه حين يُغمض عينيه عن أخطائه الشخصية، أو يبرر عجزه بإلقاء كل اللّوم على السياسيين. أنا أنطلق من مبدأ أن الإنسانية واحدة لا تتجزأ، فالمشاكل والتحديات تواجه الإنسان أينما كان، والإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان. لقد قدّمت سوريا – مهد الحضارات – للعالم مساهمات إنسانية وفنيّة لا تُحصى، وساهم أبناؤها الذين هاجروا في بناء حضارات أخرى. وقد لا ترتبط المعاناة بمكان محدّد؛ فالهمّ لا يُقاس ولا يُقارن، إذ أن الهمّ لا يوجع إلا صاحبه”.

تبدو تأملات الفنّأن هذه جليّة في منحوتات المعرض بين تكاوين قد نلمح فيها تفصيل من جسد ما هنا وطرف وجه هناك، و تطرح علينا الأسئلة المتنوعة، وتصاميم تستدعي الحيرة والذهول، وكتل تقف رغم الفقد. تبدو المنحوتات كتشكيلات مشبعة بإرادة الاستمرار. المعارضة في أعمال شعيب ليست صراخًا أو احتجاجاً، بل وقوفًا صامتاً وفعل مقاومة يُجسّد الإصرار على العيش.

“أنا أعارض الاندثار”، يقول شعيب. في نبرته، كما في منحوتاته، مؤكداً على أن الفن قادر على أن يكون صوتًا للحياة حين يخفت كل شيء آخر.

تتجسّد هذه الرؤية كذلك في فلسفته حول إعادة تدوير المواد التي يستخدمها الفنان التي يعبر عنها بقوله أعتمد على الارتجال في أعمالي حيث أبدأ بفكرة، ثم أترك المادة تقودني وأجد الجمال في المواد المهملة، فأُعيد تدوير قطع الخشب التي أجدها على الأرض، تلك التي داسها الناس دون أن يلحظوا قيمتها، واعيد تعريف القيمة من خلال أعمالي حيث قد يفقد برغي ما على سبيل المثال قيمته الاستهلاكية لكن قيمته الصنعية موجودة إذ قد يحتاج إنتاج هذا النوع من البراغي إلى معمل بأكمله. واستخدم تلك المواد خصوصاّ في القواعد التي تحمل منحوتاتي فهي ليست مجرد قاعدة لتمثال أو منحوتة ، بل عنصر تكويني يُساعد في قراءة العمل وفهمه.

 

الفراغ وثلاثية الأبعاد: ذاكرة البيوت المهدمة

الفن، بالنسبة لي، ليس مجرّد مهنة، بل تجربة وجودية. عندما كنت طفلاً، كنت أتأمل تفاصيل الأشياء من حولي: أوراق الأشجار المتساقطة بندوبها، واليوم البناء المهدّم بفجواته والصور الباهتة على الجدران، تلك التي تحمل آثار وذكريات أناس غابوا، بعضهم بسلام، وآخرون رحلوا قسراً دون أن يدركوا أنهم رحلوا. الألوان التي خطّوها بأيديهم، والخيالات التي تتركها الأماكن المظلمة، كلها كانت ولا تزال تلهمني. هؤلاء هم شخوص أعمالي: أشخاص عاشوا، تألموا، واجهوا المصاعب، وتمسّكوا بالحياة. هي شخوص تتساءل: لماذا بقي ما بقي؟ ولماذا زال ما زال؟

 

يشرح شعيب العملية بقوله: “النحت هو حوار مستمر مع المادة. الفراغ هنا ليس ثقبًا أو غيابًا، بل هو جزء أساسي من المنحوتة. إنه المساحة التي تمنح الكتلة هويتها وتتيح للناظر استكشافها من زوايا مختلفة”.
والفراغ في أعمالي ليس بترًا بقدر ما هو مساحة للتأمل ولإكمال المشهد في خيال المتلقي. هو تعبير عن الفقد، عن خسارة الجسد أو المكان، لكنه أيضاً مساحة تمنح العمل بعداً نفسياً وروحياً، إنّها تتيح للعين أن ترى من خلالها، لكنها لا تُفقد المنحوتة توازنها .

 

وبهذا يصبح الفراغ، في منحوتات ممتاز شعيب امتداداً سردياً للنحت ذاته. هو حضور للغياب، تجسيد لما فقدته الأماكن والأرواح. وإذا أردنا فهم هذا الفراغ بشكل أعمق، علينا أن نتأمل في مشهد البيوت المهدّمة في غوطة دمشق ومحيطها، حيث يسكن الفنان ويعمل.

غوطة دمشق، هي الحزام الأخضر الذي كان يلفّ العاصمة مثل سوارٍ من الخيرات، وتحوّل في السنوات الأخيرة إلى أطلال أصبحت البيوت التي كانت تُطِلّ بشرفاتها على بساتين المشمش والتين جدراناً مجرّحة، وشواهد مقابر شاهقة الارتفاع للغياب. الفراغات التي تركتها القذائف والصواريخ لم تُحدث فجوات في الحجر فحسب، بل صنعت ثقوباً لا يمكن ردمها في الذاكرة الجمعية.

الفراغات التي تتناثر في منحوتاته ليست مجرد فجوات عشوائية، بل هي محاكاة لتلك البيوت التي فقدت جدرانها، لكنها تختلف عنها في صورة هذا الفراغ. ففي حين كان الفراغ في المنازل المدمرة علامة على الموت والفقدان، يصبح الفراغ في منحوتات شعيب مساحة للتأمّل والخلق.
الفن، كما يقدمه شعيب شهادة على أن الفراغ، مهما كان مؤلماً، يمكنه أن يُصبح مساحة للخلق والتجدد.

فكما بقي بستانه صامدًا في وجه العدم، يُحاول الفنان، عبر منحوتاته، أن يقول لنا: الفراغ ليس موتًا. الفراغ دعوة لنتخيل ما كان، ونصنع منه ما سيكون.

في أعمال ممتاز شعيب النحتية،  يتجاوز الخلق الفنّي الرمزية لكونها تحمل معاني تتجاوز الشكل الذي نراه، فتفتح للمشاهد أبواب التأمل والتساؤل. ففي حين تبدو الفتاة الفيروزية واقفة فوق مجرى ماء، تصبح في الوقت نفسه شاهدة على الأنهار المفقودة التي كانت تروي غوطة دمشق، وتذكّرنا بالينابيع ومصادر المياه التي جفّت بسبب الإهمال وتدمير البنى التحتية في البلاد، وبكل ما اندثر من معالم الطبيعة والذاكرة. في المقابل، تأتي منحوتة الماعز كتجسيد لقوة الكائن الجبلي القادر على الصمود والتكيف رغم قسوة الظروف، تماماً كما يفعل الإنسان السوري حين يواجه تحديات الحياة ويصبح بذلك معدن البرونز بحد ذاته ارادة لا تنكسر.

يتكرر الرقص كفعل تعبيري في أعمال شعيب. و تبدو فيها الأجساد الراقصة مرتبكة أحيانًا، كأنها لا تعرف إلى أين تأخذها حركتها.  فهي ترقص تارة رقصًا احتفاليًا وتارةً اخرى تحاول للتخفّف من الأعباء.

في منحوتة “الراقصة المعلّقة”، يظهر جسد رشيق يتمايل للأمام، مدفوعًا برغبة غير مرئية. يضفي الفراغ بين الذراع والجذع  إحساسًا بالحركة المستمرة، رغم أن التمثال ساكن في مكانه.

“الرقص بالنسبة لي ليس مجرد حركة جسدية”، يقول شعيب، “بل حالة انتقال من واقع ثقيل إلى لحظة خفيفة، أنا لا أرقص، لكنني أراقب الرقص كفعل مقاومة وفرح رغم الأثقال التي نحملها”.

وهكذا يصبح الرقص ليس مجرد حركة جسدية، بل حالة تحرّر ومساحة للانعتاق من قيود الواقع وأثقاله والتعبير عن الذات بلا حدود.

وبهذا تتجاوز موضوعات المنحوتات ما ترمز اليه لتكون هي بذاتها شاهداً على الصمود الفنّي في زمن الحرب

يقول الفنّان في رؤيتي الفنية، لا أبحث عن أعمال تُستهلك سريعاً، بل عن منحوتات تحفّز الفكر، تستفز التساؤل، وتجعل المشاهد يطرح على نفسه أسئلة جوهرية: ماذا نريد حقاً من هذه الحياة؟ وما الذي يمكننا التخلي عنه لنخفف أعباءنا ونصل إلى جوهر الأشياء؟

وفي سؤال أخير للنحّات ممتاز شعيب حول هواجسه المستقبلية يقول:

“في الماضي لعبت سوريا أدواراً عسكرية وسياسية، لكنها اليوم بحاجة لاستعادة دورها الثقافي. نحن أبناء حضارة إنسانية عالمية، والفن والثقافة هما رسالتنا الحقيقية. آمل أن نستعيد هذا الدور، وأن نُظهر للعالم ما يمكن للفن السوري أن يقدمه للإنسانية”.

في هذا المشغل، الذي يستقبل البرونز المنصهر، يتجدد الإيمان بأن الفّن ليس مجرد عمل فردي، بل هو أيضاً طريقة لقول الحقيقة: أن الحياة، مهما تكسّرت، تعرف طريقها إلى الوجود من جديد، وحكاية مشتركة تُنسج بين نحات يُمسك بالإزميل، وطفل يُشكّل بيتًا صغيرًا، وشاعر يرى في البرونز المنصهر ذاكرةً للأماكن والأزمنة.

 

للمزيد عن المعرض يمكن زيارة صفحة غاليري البيت الأزرق على فيسبوك 

https://www.facebook.com/share/r/166PcgXzX9/?mibextid=wwXIfr